فصل: تفسير الآية رقم (56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (55):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [55].
{وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} أي: في شك وجدال من التنزيل الكريم، لما طبع على قلوبهم: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} أي: القيامة: {بَغْتَةً} أي: فجأة: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أي: يوم لا يوم بعده. كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيماً. والمراد به الساعة أيضاً. كأنه قيل: أو يأتيهم عذابها، فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل. أفاده أبو السعود. أي: لأنه بمعنى: شديد لا مثل له في شدته. وتقدم فيما نقلنا وجه آخر وهو أن المعنى: لا يزال الذين كفروا في ريب من الحق أو الكتاب، لا تستقر عقولهم عليه حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة، فيلاقون حسابهم عند ربهم. أو إن امتد بهم الزمن، ومادّهم الأجل، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم. يوم حرب يسامون فيه سوء عذاب القتل أو الأسر. فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة. بل يسلبون ما كان لديهم، ويساقون إلى مصارع الهلكة، وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته. انتهى.

.تفسير الآية رقم (56):

القول في تأويل قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [56].
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} أي: يوم تزول مريتهم: {لِلَّهِ} أي: وحده، بحيث لا يكون لأحد تصرف لا حقيقة ولا صورة: {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي: بالمجازاة، ثم فسر الحكم بقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.

.تفسير الآيات (57- 59):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [57- 59].
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا} أي: في الجهاد: {أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} أي: من الجنة ونعيمها: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
قال في الإكليل: استدل بقوله تعالى: {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} فَضَالةُ بن عبيد الأنصاري الصحابيّ على أن المقتول الميت في سبيل الله سواء في الفضل. أخرجه ابن أبي حاتم وهو رأي قاله جماعة. وخالفه آخرون ففضلوا المقتول وأخرجه ابن أبي حاتم عن سليمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «فمن مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأمر، وأجرى عليه الرزق، وأمن من الفتانين. وأقرؤوا ما شئتم: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى: {حَلِيمٌ}».

.تفسير الآية رقم (60):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [60].
{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} أي: ومن جازى ظالماً بمقدار ظلمه، ولم يزد في الاقتصاص منه، ثم تعدى عليه الظالم ثانياً، لينصرن الله ذلك المظلوم. وإنما سمي الابتداء بالعقاب، الذي هو الجزاء، للازدواج والمشاكلة. أو لأنه سبب الجزاء وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} تعريض بالحث على العفو والمغفرة. فإنه تعالى مع كمال قدرته، لمّا كان يعفو ويغفر، فغيره أولى بذلك. وتنبيه على قدرته على النصر. إذا لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده. فظهر سر مطابقة العفوّ الغفور لهذا الموضع.

.تفسير الآيات (61- 62):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [61- 62].
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي: ذلك النصر بسبب أنه قادر. ومن آيات قدرته البالغة، إيلاج أحد الملوين في الآخر، بزيادته في أحدهما ما ينقص من ساعات الآخر: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي: ذلك الصنع الباهر بأنه المعبود الحق الذي لا مثل له ولا ندّ، وأن الذي يدعوه المشركون هو الباطل الذي لا يقدر على صنعة شيء. بل هو المصنوع. أي: فتتركون عبادة من منه النفع وبيده الضر، وتعبدون الباطل الذي لا تنفعكم عبادته. وأن الله هو ذو العلوّ على كل شيء، والعظيم الذي كل شيء دون عظمته، فلا أعلى منه ولا أكبر. ثم أشار إلى آية من آيات صنعه الباهر، تقريراً لألوهيته، بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (63- 65):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [63- 65].
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} أي: جعلها معدّة لمنافعكم: {وَالْفُلْكَ} أي: وسخر لكم البحر، حتى أن الفلك: {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} أي: بتيسيره لمنافعكم: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي: بمشيئته وقدرته. أي: ما يمسكها ويحفظها إلا ذلك، رحمة بكم، فاشكروا آلاءه وحده: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} أي: في آلائه وآياته المذكورة، ما أَبَان فيها من طرق الاستدلال على وحدانيته، لا إله إلا هو. وكذلك من آيات ألوهيته ما تضمن قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (66):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [66].
{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} أي: جحود للنعم، بعبادة غير بارئها. أو إشراكه معه، مع أنه هو الخالق لكل ذلك، والقادر عليه، وغيره لا يملك شيئا.

.تفسير الآية رقم (67):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} [67].
{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا} أي: وضعنا: {مَنْسَكاً} أي: شريعة ومتعبداً: {هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أي: في ذلك الجعل والوضع والحوار في تنوعه في كل أمة، وعدم وحدته، أو في أمر ما جئتهم به، زعما بأنه يستغني عنه بما شرع قبله. لأنه جهل بحكمته تعالى في تكوين الأمم وتربيتها بالشرائع المناسبة لزمنها ومكانها، وحياتها ومنشئها. ولذلك كانت هذه الشريعة أهدى الشرائع للامتنان بها، حينما بلغ الإنسان أعلى طور الرشد ولذلك وجبت الدعوة إليها خاصة كما قال سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} أي: اثبت على دينك ثباتاً لا يطمعون أن يخدعوك عنه. أو معناه: ثابر على الدعوة إلى ما أمرت به. فلا تضرك منازعتهم. وعلى الكل اتباعك وعدم مخالفتك، لاستقرار الأمر على شرعتك. لأنها الطريق القويم.
هذا، وقال ابن جرير: أصل المنسك في كلام العرب، الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، لخير أو شر. يقال: إن لفلان منسكاً يعتاده، يراد مكاناً يغشاه ويألفه لخير أو شر. وقد اختلف أهل التأويل في معنى النسك هنا، فقيل: عيداً. وقيل: إراقة الدم ثم استظهر أن المعنى إراقة الدم أيام النحر بمنى. لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت إراقة الدم في هذه الأيام، أي: فلا ينازعك هؤلاء المشركون في ذبحك ومنسكك بقولهم: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله؟ انتهى.
وعليه، فيكون المراد بالجعل في قوله تعالى: {جَعَلْنْا} الجعل القدريّ لا التشريعيّ. كما قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، أي: هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته. فلا تتأثر بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق. وهذا كقوله تعالى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص: 87]، أشار له ابن كثير. ونقل الرازيّ عن ابن عباس، في رواية عطاء، أن المراد بالمنسك: الشريعة المنهاج. قال: وهو اختيار القفال، لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]، وهو الذي آثرناه أولاً لظهوره فيه. والله أعلم.

.تفسير الآيات (68- 71):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [68- 71].
{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي: من أمر الدين: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} أي: حجة: {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي: من ضرورة العقل أو استدلاله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي: يدفع عنهم ما يراد بهم.

.تفسير الآيات (72- 74):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [72- 74].
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي: حال كونها واضحة الدلالة على حقيقتها وما تضمنته: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} أي: الإنكار أو الفظيع من التهجم والبسور. أو الشر الذي يقصدونه بظهور مخايله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي: يبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب. قال في فتح البيان: وكذلك أهل البدع المضلة، إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليه، من آيات الكتاب العزيز أو من السنة الصحيحة، مخالفاً لما اعتقده من الباطل، رأيت في وجهه من المنكر، ما لو تمكن من أن يسطو بذلك لفعل به ما لا يفعله به ما لا يفعله بالمشركين والله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ} أي: بُيِّنَ: {مَثَلٌ} أي: حال مستغرب: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} أي: تدبروه حق تدبره. فإن الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: الأصنام: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} أي: لخلقه متعاونين. وتخصيصه الذباب، لمهانته وضفعه واستقذاره. وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل المشركين. حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها، صوراً وتماثيل، يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله، ولو اجتمعوا لذلك: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} أي: هذا الخلق الأقل الأذل، لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه، لم يقدروا: {ضَعُفَ الطَّالِبُ} أي: الصنم يطلب ما سلب منه: {وَالْمَطْلُوبُ} أي: الذباب بما سلب. وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف. ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف. فإن الذباب حيوان وهو جماد. وهو غالب وذلك مغلوب. وجوز أن يراد بالطالب عابد الصنم، وبالمطلوب معبوده. قيل: وهو أنسب بالسياق لأنه لتجهيلهم وتحقير معبوداتهم. فناسب إرادتهم والأصنام من هذا التذييل. واختار الوجه الأول الزمخشري. لما فيه من التهكم، بجعل الصنم طالباً على الفرض تهكماً وأنه أضعف من الذباب لأنه مسلوب وجماد، وذلك حيوان بخلافه.
وهذه الجملة التذييلية إخبار أو تعجب. وقوله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما عرفوه حق معرفته، حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: قادر وغالب. فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيهاً به. أو لقويّ بنصر أوليائه، عزيز ينتقم من أعدائه.

.تفسير الآيات (75- 76):

القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [75- 76].
{اللَّهُ يَصْطَفِي} أي: يختار: {مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} أي: فلا نكران لاصطفائه من البشر من شاء لرسالته. ولا وجه لقولهم: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8]، قال أبو السعود: كأنه تعالى. لما قرر وحدانيته، في الألوهية، ونفى أن يشاركه فيها شيء من الأشياء بيّن أن له عباداً مصطفيْن للرسالة، يتوسل بإجابتهم والاقتداء بهم، إلى عبادته عزّ وجلّ. وتقدمه بنحوه البيضاوي: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: ما عملوه وما سيعملونه: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي: لأنه مالكها. فلا يُسأل عما يفعل، من الاصطفاء وغيره، وهم يسألون.

.تفسير الآية رقم (77):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [77].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} أي: صلوا. وعبر عن الصلاة بهما، لأنهما أعظم أركانها. أو اخضعوا له تعالى، وخروا له سجداً، لا لغيره: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} أي: تحروه. كصلة الأرحام ومواساة الأيتام والحض على الإطعام والاتصاف بمكارم الأخلاق: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة.
تنبيهات:
الأول: لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة. واختلفوا في السجدة الثانية- هذه- فروي عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى، أنهم قالوا: في الحج سجدتان. وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، يدل عليه ما روي عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال: «نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما». أخرجه الترمذي وأبو داود. وعن عُمَر بن الخطاب أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين وقال: إن هذه السورة فضلت بسجدتين. أخرجه مالك في الموطأ وذهب قوم إلى أن الحج سجدة واحدة، وهي الأولى، وليست هذه بسجدة وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوريّ وأبي حنيفة ومالك. بدليل أنه قرن السجود بالركوع. فدل ذلك أنه سجدة صلاة، لا سجدة تلاوة- كذا في لباب التأويل أي: لأن المعهود في مثله من كل آية، قرن الأمر بالسجود فيها بالركوع، كونه أمراً بما هو ركن للصلاة، بالاستقراء نحو: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عِمْرَان: 43]، وإذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال.
وما روي من الحديث المذكور، قال الترمذيّ رحمه الله: إسناده ليس بالقويّ. وكذا قال غيره كما في شرح الهداية لابن الهمام.
قال الخفاجيّ: لكن يرد عليه ما في الكشف أن الحق أن السجود حيث ثبت، ليس من مقتضى خصوص في تلك الآية، لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة البتة. بل إنما ذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله. فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة. ومع ذلك يشرع السجود عند تلاوتها، لما ثبت من الرواية فيه.
الثاني: قال في اللباب اختلف العلماء في عدّة سجود التلاوة. فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة. لكن الشافعي قال: في الحج سجدتان. وأسقط سجدة ص. وقال أبو حنيفة في الحج سجدة. وأثبت سجدة ص وبه قال أحمد، في إحدى الروايتين عنه. فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة. وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود. يروى ذلك عن أبيّ بن كعب وابن عباس. وبه قال مالك.
فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة. يدل عليه ما روي عن أبي الدرداء، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «في القرآن إحدى عشرة سجدة». أخرجه أبو داود وقال: إسناده واه. ودليل من قال: في القرآن خمس عشرة سجدة ما روي عن عَمْرو بن العاص قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن خمس عشرة سجدة. منها ثلاث في المفصل. وفي سورة الحج سجدتان أخرجه أبو داود. وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في: {اقرأ} و{إذا السماء انشقت} أخرجه مسلم. انتهى.
والخمس عشرة: في الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، والحج، والفرقان، والنمل، والم تنزيل، وص، وحم، والسجدة، والنجم، والانشقاق، واقرأ.
والمفصل من سورة الحجرات إلى آخر القرآن، في أصح الأقوال. سمي مفصلاً لكثرة الفصل بين سوره.
الثالث: سجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع. وبه قال مالك والشافعي وأحمد. لقول ابن عمر: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد أحدنا موضعاً لجبهته. رواه الشيخان.
وقال عمر: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. رواه البخاري وقوله تعالى: